كيف تمكنت اللغة من تغيير البشرية ؟

- Elaph Translation Blog - كيف تمكنت اللغة من تغيير البشرية ؟

كيف تمكنت اللغة من تغيير البشرية ؟

كيف تمكنت اللغة من تغيير البشرية ؟

بماذا نُشبِّه قوة اللغة؟ إنها جزء من تقنية عصبية سمعية لإعادة تشكيل أذهان البشر، فبواسطة اللغة تستطيع نقل الأفكار مباشرةً من عقلك لتغرسها في عقل شخص آخر والعكس صحيح. تعتمد لغتنا على نبضات مباشرة من الصوت، فاللغات جينات مُتكِّلمة لتحصل بها على ما تريد. للغة قوة مهيبة على مدار العصور، فهناك كتب لا يمكنك أن تقرأها، وعبارات لا تستطيع استخدامها، وكلمات لا يمكنك قولها. جميعنا تربى على ذلك من الصغر. كما يعلم جميعنا قصة برج بابل التوراتية؛ حيث استبد الغرور بالبشر وباستخدام لغتهم الواحدة عملوا معاً، ليبنوا برجاً يأخذهم إلى عنان السموات، فما كان من الله إلا أن دمَّر البرج، وفرَّق الناس بإعطائهم لغات عديدة مُحَيِّرة. ومن هنا نشأت المفارقة المحزنة: التي تتمثل في أن لغاتنا تقف حجر عثرة في طريق التواصل.

فماذا الذي يجعلنا نحتاج إلى اللغة في حياتنا؟ وكيف تقدمنا وتطور استخدامنا للغة؟ تكمن الإجابة عن هذه التساؤلات لدى علماء النفس والأنثروبولوجي في كلمتين: التعلُّم الاجتماعي، أي التعلُّم من الآخرين بالمحاكاة أو التقليد أو بالمشاهدة فقط، ومن ثم استخلاص أفكار جديدة نُضيفها على المحتوى القديم، والتعلُّم من الأخطاء، والاستفادة من حكمة الآخرين، ومن ثَم تتراكم أفكارنا، وتتطور تقنياتنا حتى يقودنا ذلك إلى التأقلُم الثقافي المتراكم.

للتعلم الاجتماعي مساوئه أيضًا فما هو إلا سرقة بصرية؛ فإذا كان البشر يستطيعون التعلم عبر المشاهدة، فباستطاعتهم سرقة أفضل الأفكار والجهود دون إضاعة الوقت والطاقة في تعلُّم الأشياء. ما اضطر البشر إلى خيارين: فإما أن ينكفئوا إلى جماعات صغيرة منزوية عن بعضها تتداول فيما بينها معلومات محدودة وتختفي بزوالهم، أو العمل على تطوير نظم الاتصالات التي تسمح لنا بمشاركة الأفكار وبالتعاون فيما بيننا، وكانت نتيجة هذا الخيار الأخير نشأة اللغة.

أدرك البشر أن أبسط أفعال التبادل التي نمارسها معتمدة تماماً على اللغة. فما إن نمتلك اللغة حتى نستطيع جمع أفكارنا معًا ونتطور في شتى المجالات على عكس الحيوانات التي لا تمتلك نظامًا لتبادل المعارف؛ ومن ثَم تبقى قابعة خلف أقفاصها. وتُظهر الدراسات أن أي جنس سيحصل على لغةٍ سيتمكن من الإبداع، فلم تعد الأحوال البيئية تعوقنا. وبواسطة التعلُّم الاجتماعي استطعنا تغيير الظروف البيئية لتتوافق مع حاجاتنا. وبتباعد أماكن معيشتنا تباعدت لغتنا، حتى طوَّرنا آلاف اللغات باختلاف عِرْقياتنا وثقافتنا، فالبشر لا يطورون اللغة بغرض التواصل وتبادل الثقافة فقط إنما يطورونها لرسم حدود الأوطان، والتعاون بين المجموعة الواحدة، وتكوين الهوية، والإحاطة بمعرفتنا ومهاراتنا فلا يتناقلها الآخرون دون أن يتعلموا لغتنا ويتقنوا ثقافتنا. ورغم يقيننا أن اختلاف اللغة يعوق تناقل الأفكار والمعلومات، فإن هذا العالم الحديث لا يسمح بالانعزال والاحتفاظ بما نعرف لأنفسنا فقط، فبفضل التطور والتكنولوجيا والعولمة لا نكف -نحن البشر- عن التواصل أكثر من أي وقت مضى، سواء كان التواصل بغرض التواصل أو الإعلان عن سلع وأفكار وتقنيات.

وللغة وللتواصل كُلفة؛ فلا يُشترط أن تتعلم اللغة لتتواصل، بل يحتاج البشر بالأحرى إلى عمليات النقل والترجمة. فلكي ينمو البشر ويتطوروا محافظين على تعاونهم، فإنهم يحتاجون إلى خط وهمي يربطهم ويُقصِّر المسافات فيما بينهم، هذا الخط هو اللغة الواحدة لتبادل الثقافة والعلوم؛ ولهذا تلجأ الهيئات والمؤسسات الكبرى إلى تحمٌّل التكاليف الباهظة لعملية الترجمة، فعلى سبيل المثال لك أن تعرف أن الاتحاد الأوروبي يضم في جنباته 23 لغة مختلفة، وينفق سنويًّا ما يزيد على مليار يورو لتغطية تكاليف الترجمة فقط، كما أنه يوظف مترجمين دائمين يصل عددهم إلى 2,500 مترجم.

Share:

Leave A Comment